الحقيبة المدرسية في اليابان فن راقٍ ودقة متناهية

تاريخ الإضافة الخميس 7 كانون الأول 2017 - 12:37 م    عدد الزيارات 2984    التعليقات 0    القسم ثقافة وفن

        



يبدو هذا المكان الواسع المضيء كصالة مدرسية مخصصة للألعاب الرياضية باستثناء تلك الصفوف التي تتكدس عليها بدقة حقائب الظهر بلونين لامعين وهما الأحمر والأسود. كما تتواجد فيه مجموعة من حرفيين متفانين يجمعون مهاراتهم لخلق شيء مفيد، أنيق، وغير قابل للتلف توعا ما وذلك لفئة من الأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين خمسة وست سنوات. وهذا هو المكان الذي تستخدمه شركة Tsuchiya Bag لتجميع مجموعة جديدة من الحقائب التي يطلق عليها اليابانيون اسم “راندوسير” وهو مأخوذٌ من كلمة “رانسل” الهولندية التي تعنى حقيبة الظهر، طال انتظارها وهي حقائب مدرسية يابانية تُحمل على الظهر وأصبحت مؤخرا موضة عالمية في العديد من دول العالم.

 

يقول تسوتشيا كونيو الذي أسس الشركة التي تحمل اسمه منذ أكثر من نصف قرن، ”اذا أنتجنا عشرة حقائب راندوسير، فإننا نتوقع عشرة زبائن راضين تماما“. ورغم وصوله إلى سن الـ ٧٨ عاما، فإنّ تسوتشيا يتمتّع بمظهر شبابي يجعله يبدو أصغر من عمره حيث يرتدي نفس مئزر الجينز الذي يرتديه موظفو الشركة. ويضيف، ”لقد كانت مهمتي منذ البداية صناعة أرقى أنواع حقائب الـ راندوسير في اليابان. وعندما نصنع ٥٠٠ حقيبة، فإننا لن نتساهل حيال أيّ عيب. فواحدة من الحقائب تعتبر كل شيء بالنسبة للزبون“.

 

 

٣٠٠ خطوة للوصول إلى الكمال

وبعد إنشائها عام ١٩٦٥، أصبحت ماركة تسوتشيا واحدة من أكثر الأسماء تقديراً في سوق السلع الجلدية في اليابان حيث يتم تجميع حقيبة الـراندوسير من أكثر من ١٥٠ قطعة ضمن إطار عملية تدوم عاماً كاملاً وتشمل أكثر من ٣٠٠ خطوة.

 

يبدأ التجميع مع الصفيحة الخلفية التي تشتهر بها حقائب تسوتشيا. بغية ضمان نعومة أشبه بالوسادة وقياس مناسب، حيث يستخدم الحرفي طبقتين من التوسيد مصنوعتين من نوعين مختلفين من رغوة يوريتان. ويتم تغطية التوسيد بغطاء ليّن من الجلد الطبيعي للتهوية والراحة كما تجري نفس العملية مع الصفيحة الخلفية المجمعة يدويا والتي تتميز بفجوة على شكل حرف U مخيطة بعمق تُمَكِّن من وجود فسحة للتنفس لمنع تراكم الحرارة والرطوبة.

 

خياطة الصفيحة الخلفية المبطنة.

 

في حين تستخدم الآلات بالنسبة لمعظم الخياطة، فإن التجميع الشامل لا يزال عملية يدوية شاقة. وذلك لأن الجلد هو مادة طبيعية تختلف كل قطعة عن الأخرى في الليونة والسماكة والملمس. سيما وأن الانتاج الآلي يؤدي إلى بعض التشويه وغيره من الأخطاء في المنتج النهائي.

 

 (يمين) يدل القفل المتميز على المظهر القوي والذي وضع بدقة على شعار المصنّع. (يسار) الجلد في زوايا الحقيبة يتم طيه يدويا ليصبح ”طيات أقحوانية“ صغيرة جدا مصممة لتقليل الضرر من الجرجرة.

 

ولعل الهدف من كل هذا العمل المكثف هو انتاج حقيبة متينة مريحة وواسعة من شأنها أن تبقى على شكلها على مدى ست سنوات من الاستعمال المستمر. حيث يركض الأطفال ويقفزون، ويتعثرون. لمواجهة هذه التحديات مهما كانت الظروف، وتعزز شركة تسوتشيا الألواح الجانبية بمحتوى من البلاستيك القاسي لمنع الحقائب الصلبة من الانهيار. ويتم تعزيز الأربطة من الداخل مع شريط وهي مخيطة بشكل مزدوج على طول حدود الحقيبة لقوة التحمل.

 

عملية الخياطة الآلية.

 

تتطلب الخياطة الآلية لهذه الحقائب عمالة ماهرة. لذا يجب تحديد وتعديل عرض الخيط وطول الغرزة بعناية مع سمك الجلد، والذي يختلف من خطوة إلى أخرى. وبالتالي لا يمكن أن تتقلب الخياطة أو تنحرف ولو ملليمتراُ واحدا وهكذا فإن وجود أي تفاوت أو خلل في الخياطة يجعل الحقيبة تبدو رخيصة وقبيحة، حسب ما يقوله تسوتشيا.

 

يتحدث تسوتشيا بأمور العمل مع إحدى الاخصائيات في خياطة الجلود باستخدام الماكينات مع خبرة خمس سنوات في التجميع النهائي.

 

لماذا كل هذا الضجيج على حقيبة ظهر مدرسية؟ الآباء يعرفون أن أطفالهم سيحملون تلك الحقيبة معهم يوماً بعد يوم لمدة ست سنوات. ويجب أن تكون قوية للغاية، ولكن يجب أن تتميز أيضا ببساطة كلاسيكية من حيث النمط الذي سيرضي البالغ من العمر ١٢ عاما كما هو الحال للطفل في الصف الأول. وتتحسن حقيبة راندوسير ذات جودة عالية مع مرور الوقت، حيث يتراكم عليها مع مرور الزمن طبقة فوق طبقة من ذكريات الطفولة.

 

حرفيّ جلود متمرس يُعلَّق الألواح الجانبية المسلحة، التي تمنع الحقائب من الانهيار.

 

 

من مشروع رجل واحد إلى قيادة خط الإنتاج

كان تسوتشيا يبلغ من العمر ٢٧ عاماً عندما ترك وظيفته مع صانع حقائب آخر لإنشاء متجر بمفرده. وبدأت شركة Tsuchiya Bag باعتبارها مشروع رجل واحد، حيث صنّعت المنتجات وباعتها في نفس المحيط الضيق.

وسارت عمليات التشغيل ببطء في البداية، ولكنها انتشرت تدريجيا من خلال المنطقة، ونما العمل التجاري. ثم جاءت المصادقة عندما بدأ المشترون المحتملون في زيارة المحل لفحص الحقائب والعودة بعدئذ مرة ثانية لإجراء عملية الشراء بعدما تفرجوا على المتاجر وغيرها من متاجر التجزئة الكبرى. ”كنا حقا متجراً صغيراٌ، لذلك كان ذلك أمراً جعلنا في غاية السرور لا سيما عندما يأتي الناس لشراء حقيبة راندوسير بعد مقارنتها مع أشهر الماركات في اليابان.“

 

وقد نمت الشركة بشكل كبير منذ ذلك الحين وأصبح لديها اليوم نحو ١٨٠ موظفاً، تتراوح أعمارهم بين العشرينات والـ٧٨ (نفس عمر تسوتشيا) وبدأت الشركة تعيين الموظفين الشباب للإنتاج من ذوي المهارات عام ٢٠٠٢، ويبلغ متوسط عمر الموظفين اليوم ٣٥ سنة. كما يتعامل الموظفون مع جميع مراحل العمل في الورشة، بدءا من التخطيط والإنتاج إلى التسويق والإعلان والمبيعات والصيانة وقد تمكنت الشركة في خلط المهارة البارعة التي يتمتع بها الحرفيون المخضرمون وإحساس الموضة الذي يتميز به الموظفون الشباب لإيجاد علامة تجارية ذات جاذبية خالدة بين مختلف الأجيال.

 

تسوتشيا كونيو، المؤسس البالغ من العمر ٧٨ عاما.

 

 

المستهلك صعب الإرضاء مطلوب

في يوم ٩ يونيو/حزيران، كشفت الشركة عن تشكيلة حقائب الـراندوسير الجديدة للعام الدراسي ٢٠١٧، واحتشدت الأسر التي لديها أطفال صغار في المقر الريئسي لـTsuchiya Bag في نيشيأراي في طوكيو، حيث يتم إنتاج الحقائب الشهيرة وبيعها. وسوف تبدأ الشركة في تلقي الطلبات في وقت قريب حيث ينبغي على الآباء والأمهات التحرك بسرعة لأن الحقائب كانت قد بيعت بشكل كامل في العام الماضي بحلول منتصف سبتمبر/أيلول.

 

أولياء الأمور الذين يصعب إرضاؤهم يتفحصون تشكيلة حقائب Tsuchiya Bag لبداية العام الدراسي في أبريل/نيسان ٢٠١٧. ويمكن أن تختار من ٦٠ من المجموعات بين نمط ولون.

 

عينات من تشكلية حقائب ”كارويزاوا“ المحدودة التي يتم تصنيعها في منتجع كارويزاوا الشهير في محافظة ناغانو.

 

ولعل لألوان الباستيل مثل الوردي والخزامي، واللون الأرجواني الفاتح، وتركيبات منها شعبية متزايدة بين الفتيات، في حين يواصل الأسود ليكون اللون المفضل لدى الصبيان. كما أن للونين البني الطبيعي والبني الأصفر أيضا طلب خاص. ويتراوح سعر حقيبة راندوسير في شركة Tsuchiya Bag من ٥٦٠٠٠ ين إلى ١٤٠٠٠٠ ين، بما في ذلك ضريبة الاستهلاك. (الشحن داخل اليابان مجانا والشركة لا تتلقى الطلبات من الخارج) لكن زبائن توتشيا يفضلون عموما جلد البقر، على الرغم من تزايد شعبية الجلود الاصطناعية أيضاً على الصعيد الوطني.

 

وقد بنت الشركة منطقة للمراقبة مجاورة مباشرة للمتجر حيث يمكن للعملاء وأطفالهم مشاهدة أجزاء من عملية التصنيع على نحو مباشر. ويأمل أولياء الأمور من أنّ مشهد العمل الشاق سيلهم أطفالهم لرعاية حقيبة الـراندوسير باهظة الثمن وصيانتها بشكل جيد. ويستلهم الحرفيون الكثير من الإبداع على مرأى الأطفال الذين يعتمدون على منتجاتهم لسنوات قادمة.

 

تقول سينو توموكو، وهي مسؤولة العلاقات العامة، ”لقد عملنا كثيرا لخلق فضاء يمكن للعائلات تذوق تجربة اختيار حقيبة راندوسير للعودة إليها كذكرى عزيزة على القلب“. وعادة تغلب العاطفة على الآباء والأمهات عند مشاهدة أطفالهم يضعون للمرة الأولى حقيبة راندوسير حيث يدركون عندئذ أنهم قد تقدّموا بالسن“.

 

عائلة تشاهد عملية التجميع من منطقة مراقبة خاصة.

 

 

استهداف سوق جديد للكبار

ولعل تسوتشيا ليست معروفة بحقائب راندوسير المدرسية فحسب ولكن أيضا بالحقائب الرجالية والنسائية الراقية. فبمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسها قدّمت الشركة للبالغين العاملين مجموعة من حقائب راندوسير أطلق عليها اسم Otona Randsel.

 

ويوضح سينو بالقول ”هنالك سمتان أساسيتان لحقيبة راندوسير التقليدية أولهما يكمن في تصميمها المتصلب الذي يشبه الصندوق والذي يحافظ على الأوراق نظيفة وآمنة، وثانيهما أنه يمكن حملها بسهولة على الظهر. وكنا نفكر لبعض الوقت عن طرق لبناء نفس الوظائف والأناقة، ونوعية اليدوية الحرفية في منتج موجه للبالغين. مع اقتراب الذكرى السنوية الخمسين لتأسيس الشركة، وقد قررنا مواجهة هذا التحدي بإنتاج اثنين من النماذج مختلفة من Otona Randsel“. وقد تم توفر الحقائب للبيع أربع مرات منذ عام ٢٠١٥ وحتى الآن وفي كل مرة كانت تباع بالكامل في يوم واحد، على الرغم من سعرها المرتفع الذي يناهز ١٠٠٠٠٠ ين.

 

حققت حقائب للكبار Otona Randsel نجاحا في اليابان. تصوير: Tsuchiya Bag.

 

وقد تطور شكل حقيبة الـراندوسير الأساسي وذلك استجابة للظروف الاجتماعية والثقافية والمادية خاصة في اليابان. وحتى مع ذلك، تبدو الصفات الجمالية والوظيفية المميزة للحقائب ويتردد صداها في الخارج، حيث ظهرت حقائب راندوسير كقطعة موضة مرغوبة. ويأمل تسوتشيا بأن تنتشر ظاهرة راندوسير مع تطوير الشركات أساليب جديدة تتكيف مع الاحتياجات والأذواق المحلية.

 

وإذا كان هاجس شركة Tsuchiya Bag مع مزايا الجودة والمتانة يبدو مفارقة تاريخية في يومنا هذا وفي هذا العصر فإنه ينبغي القول إن الزبائن لم يلاحظوا ولا حتى القائمين على أعمال الشركة هذه المفارقة فالصغار والكبار يبدو أنهم قد تبنوا الشعور السائد حول الطراز القديم المنصوص عليه بوضوح في كاتالوج المنتج: ”بعض الأشياء تصبح عزيزة أكثر وأكثر مع الاستخدام ونحن نريد من الجميع تجربة المكافآت التي تأتي من علاقة طويلة وعميقة مع واحدة من الحقائب.“

 


المصدر: nippon